لم يكتسب التفكير العلمي سماته المميّزة ، التي أتاحت له بلوغ نتائجه النظرية والتطبيقية الباهرة ، إلا بعد تطور طويل ، وبعد التغلّب على عقبات كثيرة . وخلال هذا التطور كان الناس يفكرون على أنحاء متباينة يتصورون أنها كلها تهديهم إلى الحقيقة . ولكن كثيراً من أساليب التفكير اتضح خطؤها فأسقطها العقل البشري خلال رحلته الطويلة ، ولم تصمد في النهاية إلا تلك السمات التي تثبت أنها تساعد على العلو ببناء المعرفة وزيادة قدرة الإنسان على فهم نفسه والعالم المحيط به . وهكذا يمكن استخلاص مجموعة من الخصائص التي تتسم بها المعرفة العلمية ، أيّاً كان الميدان الذي تنطبق عليه ، والتي تتميز بها تلك المعرفة عن سائر مظاهر النشاط الفكري للإنسان . ونستطيع أن نتخذ من هذه الخصائص مقياساً نقيس به مدى علمية أي نوع من التفكير يقوم به الإنسان . فما هي هذه السمات الرئيسية ؟ ! [ ... ] . يحاول الباحث الإجابة من خلال بيان تلك السمات والتي عدّها خمسة سمات . جاءت على النحو التالي : 1- التراكمية . 2- التنظيم . 3- البحث عن الأسباب . 4- الشمولية واليقين . 5- الدقة والتجريد . وقد أتى الباحث على تفصيل هذه السمات بشكل موسع ، ليشكّل هذا المحور الفصل الأول من هذا الكتاب ، لينتقل من ثَمَّ في الفصل الثاني إلى بيان العقبات التي تواجه التفكير العلمي من مثل الأسطورة والخرافة مؤكداً على أن التفكير الخرافي يتخذ شكل العداء الأصيل للعلم في مجتمعاتنا ، ويمثل هذا العداء امتداداً واستمراراً لتاريخ طويل كان العلم يحارب فيه معركة شاقة لكي يثبت اقدامه في المجتمع . يمضي الباحث في تسليط الضوء على هذه العقبة التي تواجه التفكير العلمي ، موضحاً العقبة الثانية المتمثلة في الخضوع للسلطة ، حيث يقول بأن رأيه هو الكلمة النهائية وأن معرفته تسمو على معرفتنا . مفصلاً في ذلك عناصر السلطة الذي يأتي في مقدمتها الرأي القديم ، ثم الإنتشار حيث يبيّن أنه وإذا كانت صفة القدم تعبر عن الإمتداد الطولي في الزمان ، فإن صفة الإنتشار تعبر عن الإمتداد العرض بين الناس ؛ إذ أن الرأي والحال هذه ، يكتسب سلطة أكبر إذا كان شائعاً بين الناس . أما العنصر الثالث للسلطة فيتجلى في الشهرة حيث يكتسب الرأس سلطة كبرى في أذهان الناس إذا صدر عن شخص اشتُهر بينهم بالخبرة والدراية في ميدانه . والعنصر الرابع يتمحور حول الرغبة أو التمني ، حيث يميل الناس إلى تصديق ما يرغبون فيه ، أو ما يتمنون أن يحدث . هذا ما جاء في العقبة التي تقف في طريق التفكير العلمي المتمثلة في بالسلطة وأشكالها . أما العقبة الرابعة ، فتتمثل في التعصب الذي هو اعتقاد بأمل بأن الإنسان يحتكر لنفسه الحقيقة أو الفضيلة وبأن غيره يفتقرون إليها ، ومن ثَمَّ منهم مخطئون أو خاطئون ، وهذا يعني الإنطواء على الذات والنسب إليها كل الفضائل ، مما يستدعي استبعاد فضائل الآخرين ، فالمتعصب لا يؤكد ذاته إلا من خلال هدم الغير . وتنجلي العقبة الخامسة في الإعلام المضلل الذي يرى الباحث أن هذه العقبة المتمثلة في الإعلام المضلل تشكل في مجتمعنا العربي خطراً داهماً على عقولنا وقدراتنا في التفكير الموضوعي . ثم لينتهي إلى القول ، في مجمل هذه العقبات الخمس ( التي تحول بين الإنسان وبين التفكير العلمي ) أن قدرتنا على التفكير في الأمور سواء منها ما يتعلق بالعلم أو بحياة الإنسان ومجتمعه ، تفكيراً علمياً سليماً مهدداً تهديداً خطيراً بتلك العقبات التي لا تزال تمارس تأثيرها الضار في عقل الإنسان العربي دون كابح أو ضابط . وتجدر الإشارة إلى أنه سبق للباحث أن دعا مراراً إلى حماية الأجيال الجديدة – إن كنا يائسين من الأجيال القديمة – من هذه العقبات عن طريق إدخال المبادئ الأولية للتفكير العلمي ، بطريقة شديدة التبسيط ، في البرامج التعليمية ، بحيث ينتبه النشء منذ صغره إلى خطورة الظاهر التي يراها في المجتمع المحيط به للخرافة والسلطة المتطرفة وكراهية العقل ؛ الخ ... وأخيراً يسلط الباحث الضوء على المعالم الكبرى التي سطعت في طريق العلم ، وهو إلى هذا لا يريد في هذا الفصل ( الثالث ) تقديم تاريخ للعلم ؛ بل ما يود تقديمه عرض موجز للمراحل الرئيسية في طريق العلم ، ويعني بذلك : نقاط التحوّل الكبرى خلال تاريخ العلم دون خوض في تفاصيل هذه المراحل . ومن شأن هذا العرض تقديم ، في الوقت ذاته ، لمحة عامة عن التطور اللذي طرأ على معنى " العلم " ؛ ذلك أن العلم هو ظاهرة " قديمة " ظاهرة " حديثة " في نفس الآن ، وستكون مهمة الباحث في هذا الفصل مزدوجة : فهي من وجهة عرض موجز لأهم المعالم في تاريخ العلم ، وفي الوقت ذاته ، فإأن هذا العرض سيتيح رؤية كيفية تشكّل معنى العلم بالتدريج . وعلى مر العصور ، وكيف تخلص العلماء بعناء وبطء شديد من المفاهيم غير الدقيقة التي كانت عائقاً في وجه تقدمه ، وكيف تبلورت مناهج وأساليب ممارسته حتى أصبحت في العصر الحديث أفضل نموذج للدقة والإنضباط في استخدام العقل البشري .