هذه مقالات مُنتقاةٌ للأناس الكبير مارسيل موسّ، وهي تُمَثًلُ الجزء الثالث من أعماله الأساسية الصادرة عن دار الكتاب الجديد المتَّحدة في بيروت (بعد كتاب (مقالةً في الهِبَة)، 2014، وكتاب (الصَّلاة)، 2017).
فانطلاقاً من تقنيات الجسد وبيان أنها اجتماعية في أساسها، تأخذنا هذه المقالات في رحلةٍ معرفيَّةٍ إناسيَّة نحو استكشاف بقية الأبعاد المُشَكِّلة لعيش البشريَّة ماضياً وحاضراً، ومن ذلك تحليل كيفية تشكُّل مقولة (الأنا) عند الإنسان عبر التاريخ في جدليَّتها مع مسألة المشاعر وإلزاميَّة التعبير عنها اجتماعياً، وعي جدليَّةُ تقتضي من جهة قهرية الظاهرة الاجتماعية التي قد تصل إلى أن يغدو هاجس الموت في عددٍ من المجتمعات ذا أصلٍ اجتماعي بحت، بفعل قدرته على إحداث تلف نفسيٍّ وجسديٍّ في وعي الفرد وجسده، وتقتضي من جهةٍ أخرى أن يكون للعواطف الفردية والجماعية بُعدٌ اجتماعي هو ما يُفسِّر طقسنةً استخدامات الجسدِ، وتقنياته تبعاً لذلك.
وقد اقتضى هذا المسار الفريد لدراسات موسّ أن يركز كذلك على مسألة ارتباط المشاعر الفردية بإيحاءات الجماعة، وكيفية التعبير عنها أحياناً على نحو بذيء وفظٍّ، لكنه مقبولٌ اجتماعياً، إن لم يكن مطلوباً في بعض الأحيان، واقتضى أيضاً دراسة كيفية تشكُّل الجماعات البشرية ومدى تأثير البيئة والمناخ فيها إلى درجةٍ تُوجب تغيُّر شكل انتظامها بتغيُّر المواسم الطبيعية، وُصولاً إلى تغيُّر قيمها وشكلها الاجتماعي، بل دينها أحياناً.
ويُقدِّمُ موسى في هذا الصدد أمثلة دالة لمجتمعات الإسكيمو، قبل أن يتناول مقارنة الانتظام البدويِّ لقدامى العبرانيين بنظيره عند بعض القبائل الأفريقيَّة، من غير أن يقف عند نقد النَّظريّات السّائدة وروايات الكتاب المقدِّس بشأن التَّحريمات الغذائيَّة وعلاقتها بنمط الإنتاج الرّعويِّ وتشكلٍ الزعامات القَبلية، وهو ما قاده إلى تناول مسألة تشكُّل طباع الشعوب وعقلياتها بما يقتضيه نمطُ اجتماعها، وبيان كيفية تشكُّل العقلية الجماعية وتميُّزها بطباعٍ خُلَقِيَّةِ مخصوصةٍ يبني الفردُ نفسه من خلالها ما يجعله يُؤثِّرَ فيها بقدر ما تؤثِرُ فيه.
إنَّها ثماني مقالاتٍ، وهيَ وإن كانت في موضوعاتٍ تبدو متفرِّقةً فإنها كانت تطبيقاً فذّاً لنظرية الظاهرة الاجتماعية الكلية وإظهاراً لوحدة هذا الكائن العجيب الذي كلما حاصَرَتَهُ ترسانةُ معارفنا المتجددة تفلَّت منها كاشفاً عن مدى جهلنا به، أي جهلنا في نهاية المطاف بذواتِنا الفردية والاجتماعية!…